admin Admin
عدد المساهمات : 1048 تاريخ التسجيل : 07/03/2011
| موضوع: الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه الأربعاء يونيو 29, 2011 1:21 am | |
| الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه الإمام أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه
( 80 - 150 ه )
نسبه : هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الفارسي عرف بالإمام الأعظم كان جده من أهل كابل قد أسر عند فتح بلاده ثم من عليه . وأبو حنيفة - وإن كان مولى - لم يجر عليه الرق ولا على أبيه بل كان حر النفس أصيلا ولم يكن نسبه الفارسي غاضا من قدره في عصر يقدم شرف التقوى على شرف النسب . وكان العلم في عصره أكثره في الموالي فكانوا الوسط العلمي للدولة الإسلامية بعد الصحابة ردحا طويلا من الزمن
مولده ونشأته : ولد أبو حنيفة رضي الله عنه في الكوفة سنة ثمانين للهجرة على رواية الأكثرين ونشأ وتربى بها وعاش أكثر حياته فيها متعلما ومجادلا ومعلما. ولد أبوه ثابت على الإسلام ويروى أنه التقى بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه صغيرا فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته. نشأ أبو حنيفة رضي الله عنه في بيت إسلامي خالص وقد ابتدأ حياته تاجرا ثم لفته الشعبي فقيه الأثر لما لمح فيه من مخايل الذكاء وقوة الفكر إلى الاختلاف إلى العلماء مع التجارة فانصرف إلى العلم دون أن يهمل التجارة.
طلبه للعلم : تثقف أبو حنيفة رضي الله عنه بالثقافة الإسلامية التي كانت في عصره فقد حفظ القرآن على قراءة عاصم ودرس الحديث وعرف قدرا من النحو والأدب والشعر كما درس علم الكلام وأصول الدين وجادل الفرق المختلفة في مسائل الاعتقاد وما يتصل به ثم عدل إلى الفقه واستمر عليه واستغرق كل مجهوده الفكري وقد ذكر في اختياره للفقه قوله : " كلما قلبته وأدرته لم يزدد إلا جلالة . . . ورأيت أنه لا يستقيم أداء الفرائض وإقامة الدين والتعبد إلا بمعرفته وطلب الدنيا والآخرة إلا به " وقد اتجه أبو حنيفة رضي الله عنه إلى دراسة الفتيا على المشايخ الكبار الذين كانوا في عصره ولزم شيخه حماد بن أبي سليمان مذ كان في الثانية والعشرين من عمره إلى أن مات شيخه وأبو حنيفة رضي الله عنه في الأربعين من عمره.
ومع ملازمة أبي حنيفة رضي الله عنه لشيخه حماد فقد كان كثير الرحلة إلى بيت الله الحرام حاجا يلتقي في مكة والمدينة بالفقهاء والمحدثين والعلماء يروي عنهم الأحاديث ويذاكرهم الفقه ويدارسهم ما عندهم من طرائق. وكان يتتبع التابعين أينما وحيثما ثقفوا وخصوصا من اتصل منهم بصحابة امتازوا في الفقه والاجتهاد وقد قال في ذلك : " تلقيت فقه عمر وفقه عبد الله بن مسعود وفقه ابن عباس عن أصحابهم " وقد جلس الإمام أبو حنيفة في الأربعين من عمره في مجلس شيخه حماد بمسجد الكوفة وأخذ يدارس تلاميذه ما يعرض له من فتاوى وما يبلغه من أقضية ويقيس الأشباه بأشباهها والأمثال بأمثالها بعقل قوي مستقيم ومنطق قويم حتى وضع تلك الطريقة الفقهية التي اشتق منها المذهب الحنفي.
أخلاقه : كان أبو حنيفة رضي الله عنه بالغ التدين شديد التنسك عظيم العبادة صائما بالنهار قائما بالليل تاليا لكتاب الله خاشعا دائبا في طاعة الله قام الليل ثلاثين سنة وكان القرآن الكريم ديدنه وأنيسه.
كان كثير البكاء يرحمه جيرانه لكثرة بكائه كثير الحياء جم الأدب وخاصة مع شيوخه بارا بوالديه يدعو لهما في كل صلاة ويتصدق عنهما. كان كثير الورع يقول : " لو أن عبدا عبد الله تعالى حتى صار مثل هذه السارية ثم إنه لا يدري ما يدخل في بطنه حلال أو حرام ما تقبل منه " . ولذا كان شديد الحرج في كل ما تخالطه شبهة الإثم فإن ظن إثما أو توهمه في مال خرج منه وتصدق به على الفقراء والمحتاجين وقد تصدق ببضاعته كلها عندما باع شريكه ثوبا معيبا دون أن يظهر عيبه.
كان عظيم الأمانة في معاملاته حتى شبهه كثيرون في تجارته بأبي بكر الصديق رضي الله عنه فكان مثلا كاملا للتاجر المستقيم كما هو في الذروة بين العلماء . قال فيه معاصره مليح بن وكيع : " كان أبو حنيفة عظيم الأمانة وكان والله في قلبه جليلا كبيرا عظيما وكان يؤثر رضا ربه على كل شيء ولو أخذته السيوف في الله لاحتمل " ومن أخلاقه السماحة والجود فقد كانت تجارته تدر عليه الدر الوفير رغم ورعه واكتفائه من الربح بالقدر اليسير وكان ينفق أكثره على المشايخ والمحدثين اعترافا بفضل الله عليه فيهم. قال فيه الفضيل بن عياض : " كان أبو حنيفة رجلا فقيها معروفا بالفقه واسع المال معروفا بالأفضال على كل من يطيف به صبورا على تعلم العلم بالليل والنهار حسن الليل كثير الصمت قليل الكلام حتى ترد مسألة في حلال أو حرام فكان يحسن أن يدل على الحق رهابا من مال السلطان " كان رحمه الله واحد زمانه لو انشقت عنه الأرض لانشقت عن جبل من الجبال في العلم والكرم والمواساة والورع والإيثار لله تعالى.
وكان أبو حنيفة رضي الله عنه حريصا على أن يكون مظهره كمخبره حسنا فكان كثير العناية بثيابه كثير التطيب حسن الهيئة يحث من يعرفه على العناية بملبسه وسائر مظهره مذكرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ) .
يتبع........
محنته ووفاته : عاش أبو حنيفة رضي الله عنه عصرا مليئا بالمشاحنات والتيارات فقد أدرك دولتي بني أمية والعباس وكان موقفه واضحا من كل ما يجري حوله ولم يعرف عنه يوما أنه خرج مع الخارجين أو ثار مع الثائرين . . . لكن لما طلب منه عمر بن هبيرة والي الأمويين على الكوفة أن يعمل معه امتنع فسجن وعذب ثم هرب ولجأ إلى مكة واتخذها مقاما ومستقرا له من سنة ( 130 - 136 ) للهجرة فعكف على الفقه والحديث يطلبهما بمكة التي ورثت علم ابن عباس رضي الله عنهما.
ولما استتب الأمر للعباسيين عاد إلى الكوفة وأعلن ولاءه لهم وتابع حلقات درسه في مسجد الكوفة . واستمر على ولائه للدولة العباسية إلا أنه على ما يظهر انتقد موقف الخليفة المنصور من بعض آل البيت من أبناء علي رضي الله عنه وكان حول الخليفة كثيرون يحسدون أبا حنيفة - رضي الله عنه - ويوغرون صدر المنصور عليه فكان أن عرض عليه الخليفة المنصور منصب القضاء امتحانا لإخلاصه فاعتذر الإمام عن قبول المنصب تحرجا من الوقوع في الإثم لأنه يرى القضاء منصبا خطيرا لا تقوى نفسه على احتماله وتعرض لمحنة قاسية بسبب رفضه إذ وجد الخليفة المنصور الفرصة مواتية للنيل منه فسجن وعذب ثم أخرج من السجن على أن يفتي فكان يرجع المسائل ولا يفتي فيها بشيء فسجن من جديد ثم أخرج ومنع من الفتوى والناس والخروج من المنزل فكانت تلك حاله إلى أن توفي رحمه الله سنة ( 150 ) للهجرة على أصح الأقوال . وقيل إنه مات مقتولا بالسم في سجنه رحمه الله. وكان قد أوصى أن يدفن بأرض الخيزران فحمل إليها . وقدر عدد من شيع جنازته وصلى عليها بخمسين ألفا . وقد صلى المنصور نفسه عليها إقرارا منه بعظمة دينه وتقواه وقال : من يعذرني منك حيا وميتا ؟ رحم الله الإمام ورضي الله عنه وأرضاه منزلته العلمية ومصادر علمه : كان الإمام أبو حنيفة فقيها مستقلا قد سلك في تفكيره مسلكا استقل به وتعمق فيه . وقد بقيت أصوات الثناء تتجاوب في الأجيال تعطر سيرته قال أحد العلماء : " أقمت على أبي حنيفة خمس سنين فما رأيت أطول منه صمتا فإذا سئل عن شيء من الفقه تفتح وسال كالوادي وسمعت له دويا وجهارة بالكلام " . كما وصفه معاصره الورع التقي عبد الله بن المبارك بأنه مخ العلم فهو قد أصاب من العلم اللباب ووصل فيه إلى أقصى مداه وكان يستبطن المسائل ويستكنه كنهها ويتعرف أصولها ويبني عليها . ولقد شغل عصره بفكره وعلمه ومناظراته فهو بين المتكلمين يناقشهم ويدفع أهواء ذوي الأهواء ويناقش الفرق المختلفة وله رأي في مسائل علم الكلام أثر عنه بل هناك رسائل نسبت إليه وله في الفقه والتخريج وفهم الأحاديث واستنباط علل أحكامها والبناء عليها المقام الأعلى حتى إن بعض معاصريه قال : " إنه لم يعرف أحدا أحسن فهما للحديث منه "
من أين جاء لأبي حنيفة رضي الله عنه كل هذا العلم ؟ ما مصادره ؟ ما مهيئاته ؟ ما الذي توافر له حتى كان منه ما رواه تاريخ العالم الإسلامي ؟ لقد تهيأ لتوجيه أبي حنيفة رضي الله عنه توجيها علميا ولنبوغه في وجهته أمور أربعة أولها : صفاته التي جبل عليها ثانيها : شيوخه الموجهون الذين التقى بهم وأثروا فيه ثالثها : حياته الشخصية وتجاربه ورابعها : العصر الذي أظله والبيئة الفكرية التي عاش فيها وسنخص كل واحد من هذه العناصر بكلمة :
- 1 - صفاته : اتصف أبو حنيفة رضي الله عنه بصفات جعلته في الذروة بين العلماء صفات العالم الحق الثبت الثقة البعيد المدى في تفكيره المتطلع إلى الحقائق الحاضر البديهة الذي تسارع إليه الأفكار. كان رضي الله عنه ضابطا لنفسه مستوليا على مشاعره لا تعبث به الكلمات العارضة ولا تبعده عن الحق العبارات النابية كان يقول : " اللهم من ضاق بنا صدره فإن قلوبنا قد اتسعت له " . وقد أوتي استقلالا في تفكيره جعله لا يخضع في رأيه إلا لنص من كتاب أو سنة أو فتوى صحابي ولم يؤثر فيه الحب والبغض.
كان عميق الفكرة بعيد الغور في المسائل لا يكتفي بالبحث في ظواهر الأمور والنصوص ولا يقف عند ظاهر العبارة بل يسير وراء مراميها البعيدة أو القريبة ولعل ذلك العقل الفلسفي المتعمق هو الذي دفعه لأن يتجه أول حياته إلى علم الكلام كما دفعه لدراسة الحديث دراسة متعمقة يبحث عن علل ما اشتمل عليه من أحكام مستعينا بإشارات الألفاظ ومرامي العبارات. كان حاضر البديهة لا تحتبس فكرته ولا يفحم في جدال واسع الحيلة يعرف كيف ينفذ إلى ما يفحم به خصمه من أيسر السبل وله في ذلك غرائب ومدهشات حتى قيل فيه : إنه لو أراد أن يثبت الحكم وعكسه لما أعجزه ذلك.
كان مخلصا في طلب الحق مما نور قلبه وأضاء بصيرته فكان لا يهمه إلا الحق سواء كان غالبا أو مغلوبا . وكان لإخلاصه لا يفرض في رأيه أنه الحق المطلق بل يقول : " قولنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاء بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا " هذه جملة الصفات التي جعلت من أبي حنيفة رضي الله عنه فقيها انتفع بكل غذاء روحي وصل إليه.
يتبع........
- 2 - شيوخه والموجهون الذين التقى بهم : التقى الإمام أبو حنيفة بعدد من الذين عمروا من الصحابة منهم أنس بن مالك وعبد الله ابن أبي أوفى وسهل بن سعد رضوان الله عليهم ولكنه لم يرو عنهم إذ كان في سن لقائه بهم صغيرا ولكن أجمع العلماء على أنه التقى بكبار التابعين وجالسهم ودارسهم وروى عنهم وتلقى فقههم.
وقد قال : " كنت في معدن العلم والفقه فجالست أهله ولزمت فقيها من فقهائهم " وهذا يدل على أنه عاش في وسط علمي وجالس العلماء وعرف مناهج بحثهم ثم اختار من بينهم فقيها وجد فيه ما يرضي نزوعه العلمي وهو حماد بن أبي سليمان الذي انتهت مشيخة الفقه العراقي في عصره فلزمه ثماني عشرة سنة . وكان حماد قد تلقى معظم فقهه على إبراهيم النخعي فقيه الرأي كما تلقى عن الشعبي فقيه الأثر وهما اللذان انتهى إليهما فقه الصحابيين الجليلين عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وكانا قد أقاما بالكوفة وأورثا أهلها تراثا فقهيا عظيما.
ومن شيوخه عطاء بن أبي رباح الذي أخذ خلاصة علم ابن عباس رضي الله عنهما عن مولاه عكرمة . وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يلازمه ما دام مجاورا لبيت الله الحرام ومنهم نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما وقد أخذ عنه أبو حنيفة رضي الله عنه علم ابن عمر وعلم عمر رضي الله عنهما . وهكذا اجتمع للإمام أبي حنيفة علم عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم عن طريق من تلقى عنهم من تابعيهم رضي الله عنهم أجمعين.
ولم يقتصر الإمام أبو حنيفة على الأخذ عن هؤلاء الفقهاء بل تجاوز ذلك إلى أئمة آل البيت فأخذ عنهم ودارسهم منهم الإمام زيد بن علي زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وعبد الله بن الحسن.
ولم يكن اتصال أبي حنيفة رضي الله عنه العلمي مقصورا على رجال الجماعة وأئمة آل البيت بل اتصل بمختلف الفرق وتعرف على آرائهم وأقوالهم فكان يأخذ من كل هذه العناصر ثم يخرج منها بفكر جديد ورأي قويم لم يكن من نوعها وإن كان فيه خيرها وهكذا نستطيع أن نقول إنه تلقى فقه الجماعة الإسلامية بشتى منازعها وإن كان قد غلب عليه تفكير أهل الرأي بل عد شيخ أهل الرأي.
- 3 - دراسته الخاصة وتجاربه : كانت حياة الإمام أبي حنيفة ودراساته وتجاربه تتجه به نحو تكوين فقيه العراق الأول فقد زاول التجارة وكان عليما بأحوال البيع والعرف التجاري مما جعله يتكلم في معاملات الناس وأحكامها كلام الخبير الفاهم فجعل للعرف مكانا في تخريجه الفقهي وأحسن التخريج بالاستحسان عندما يكون في القياس منافاة للمصلحة أو العدالة. كما كان كثير الرحلة إلى الحج وغيره يلتقي بالعلماء يدارس ويذاكر ويناظر ويروي ويفتي . هذا إلى ما تفيده الرحلات نفسها من فتق للذهن ومعرفة بمواطن الوحي والبلاد المختلفة فيحيط خبرا بمعاني الآثار ودقائق الأخبار ويحسن التفريع في المسائل الفقهية ويحكم تصورها والإلمام بأحكامها. وقد كان أبو حنيفة رضي الله عنه مغرما بالجدل والمناظرة منذ شب في طلب العلم ومجادلته في العقائد أرهفت تفكيره وعمقت مداركه ومناظراته في الفقه أطلعته على أحاديث وأوجه للقياس وفتاوى للصحابة لم يكن مطلعا عليها. وطريقة الإمام أبي حنيفة الخاصة في التدريس جعلت درسه مجالا لتثقيف المعلم والمتعلم معا فقد كان يطرح الفكرة ويناقشها مع تلاميذه كل يدلي برأيه مخالفا أو موافقا وبعد تقليب النظر يدلي هو بالرأي الذي تنتجه هذه الدراسة فيقر الجميع به . وهذا جعل علمه في نمو متواصل وفكره في تقدم مستمر.
- 4 - عصره : أدرك الإمام أبو حنيفة العصر الأموي في عنفوانه وقوته ثم في تحدره وانهياره وأدرك الدولة العباسية في نشأتها قوية ظافرة ناهضة مسيطرة وعاش أبو حنيفة رضي الله عنه في العصر الأموي اثنتين وخمسين سنة وهي السن التي تربى فيها وبلغ أشده ثم بلغ أوجه العلمي ونضجه الفكري الكامل . ولم يدرك من العصر العباسي إلا ثماني عشرة سنة وكانت عاداته الفكرية ومناهجه العلمية قد استقامت وصار ينتج الكثير ولا يأخذ إلا القليل . وعلى هذا فما أخذه الإمام أبو حنيفة من عصره كان أكثره من الأموي وأقله من العباسي وكان العصر العباسي نموا لما في العصر الأموي ونتائج لمقدمات بدأت قبله.
وقد أغنت الحياة السياسية الحافلة بالصراعات والاتجاهات والحياة الاجتماعية التي ضمت عناصر مختلفة لكل منها طابع خاص رغم أنها انصهرت جميعها في بوتقة الإسلام والمشاغل الفكرية في أمور العقيدة وما نشأ عنها من فرق ونحل وازدهار حركة الترجمة عن الفكر اليوناني والفارسي والهندي وتفرغ العلماء للخوض في علوم الدين الذي أثمر حركة التدوين للحديث وكثرة المناظرات والرحلات العلمية . أغنت هذه الأجواء السياسية والاجتماعية والفكرية والعلمية مدارك الفقهاء وساعدت في تفتق أذهان العلماء وأوجدت مناخا ملائما ساعد في استخراج المسائل وفي فرض الفروض والتصورات.
يتبع........ فقه أبي حنيفة رضي الله عنه : كان أبو حنيفة رضي الله عنه أشهر فقهاء الرأي كما كان مالك أشهر فقهاء الحديث . ويقصد بالرأي : كل ما يفتي فيه الفقيه في الأمور التي لا يجد فيها نصا ويعتمد في فتواه على ما عرف من الدين بروحه العامة أو ما يتفق مع أحكامه في جملتها في نظر المفتي أو ما يكون مشابها لأمر منصوص عليه فيها فيلحق الشبيه بالشبيه . وعلى ذلك يكون الرأي شاملا للقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والعرف.
وأساس الاختلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث ليس في الاحتجاج بالسنة بل في أمرين : في الأخذ بالرأي وفي تفريغ المسائل تحت سلطانه . فقد كان أهل الحديث لا يأخذون بالرأي إلا اضطرارا ولا يفرغون المسائل فلا يستخرجون أحكاما لمسائل لم تقع بل لا يفتون إلا فيما يقع من الوقائع . أما أهل الرأي فيكثرون في الإفتاء بالرأي ما دام لم يصح لديهم حديث في ذلك الموضوع الذي يجتهدون فيه ولا يكتفون باستخراج أحكام المسائل الواقعة بل يفرضون مسائلا غير واقعة ويضعون لها أحكاما بآرائهم .
وكان أكثر أهل الحديث بالحجاز لأنه موطن الصحابة الأول ومكان الوحي ولأن التابعين الذين أقاموا فيه تخرجوا على صحابة لم يكثروا من الرأي . وأكثر أهل الرأي كانوا بالعراق لأنهم تخرجوا على ابن مسعود رضي الله عنه وهو ممن كانوا يتحرجون في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتحرج في الاجتهاد برأيه ولأن العراق كان موطنا لفلسفات وعلوم مدارس قديمة كما أن أسباب الرواية لم تتوافر عند أهله. وقد عرف أبو حنيفة رضي الله عنه باتجاهه إلى الفرض والتقدير فكان يقدر مسائل لم تقع ويبين حكمها ويوضح أدلتها ويقول في ذلك : " إنا نستعد للبلاء قبل نزوله فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه " وهكذا زاد أبو حنيفة رضي الله عنه الفقه التقديري نموا وأكثر فيه وسلك الفقهاء من بعده مسلك الفرض والتقدير واختلفوا في المقدار.
ذكر العلماء مسندا من الأحاديث والآثار منسوبا إلى أبي حنيفة رضي الله عنه ولكن أكثر الآراء على أن أبا حنيفة رضي الله عنه لم يدون في الفقه كتابا مبوبا فقد كان المعروف أن تلاميذه يدونون آراءه ويقيدونها وربما كان ذلك بإملاءه أحيانا وكان هو يراجع ما دون أحيانا ليقره أو ليغيره . وكان في جلساته الفقهية مع تلاميذه يلقي مسألة مسألة يقلبها ويسمع ما عندهم ويقول ما عنده ويناظرهم حتى يستقر أحد الأقوال فيها ثم يثبتها أبو يوسف في الأصول حتى أثبت الأصول كلها . وبهذا النحو من التحرير دون مذهب الإمام أبي حنيفة وأصحابه ونشره أصحابه كتبا مبوبة مرتبة منظمة.
وكانت الأقوال التي نقلها أصحاب الإمام أبي حنيفة خالية من الدليل إلا ما يكون من أثر منقول أو خبر مشهور أو اعتماد على فتوى صحابي أو انتهاء إلى رأي تابعي وقليلا ما يذكر قياسها أو عماد استحسانها اللهم إلا ما كتب أبي يوسف ولا تحكي إلا القليل . ولا شك أن ذلك يبعد بنا عن معرفة الإمام أبي حنيفة القياس صاحب الاستحسان الذي عد أقوى قائس في عصره فلم يجرؤ أحد على منازعته القياس إذا قايس أو استحسن وإذا كانت الطبقة التي وليت أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه قد عنيت بالاستدلال واستخراج الأقيسة في الأحكام وبيان أوجه الاستحسان وأحكام العرف فإننا لسنا على ثقة كاملة من أن هذا الاستدلال الذي يسوقونه هو نفس ما كان يفكر فيه الإمام أبو حنيفة وما اهتدى على ضوئه إلى ما قرره من أحكام.
تلاميذه : كان لأبي حنيفة رضي الله عنه تلاميذ كثيرون منهم من كان يرحل إليه ويستمع أمدا ثم يعود إلى بلده بعد أن يأخذ طريقه ومنهاجه ومنهم من لازمه . وقد قال هو في أصحابه الذين لازموه : " هؤلاء ستة وثلاثون رجلا منهم ثمانية وعشرون يصلحون للقضاء وستة يصلحون للفتوى واثنان أبو يوسف وزفر يصلحان لتأديب القضاة وأرباب الفتوى " ولا شك أن هؤلاء الصحاب الذين يقرر أبو حنيفة رضي الله عنه صلاحيتهم للقضاء والإفتاء وتأديب القضاة كانوا في حياته من النضج العلمي بحيث يمكن أن تعهد إليهم هذه الأمور الخطيرة وكانوا في سن تؤهلهم لها . أما محمد بن الحسن فقد كان في الثامنة عشر من عمره حينما توفي أبو حنيفة رحمه الله ولم تكن سنه تؤهله للقضاء مع أننا سنجد فقه أبي حنيفة - رضي الله عنه - خاصة وفقه العراقيين عامة مدين لمحمد ابن الحسن بكتبه فهي التي حفظته وأبقته للأخلاف مرجعا يرجع إليه ومنهلا يستقى منه.
يتبع........
وقد أضفت خدمة تلاميذ الإمام أبي حنيفة لمذهبه وعنايتهم بذلك جلالا على المذهب وإمامه . وسنخص بالذكر بعض أصحابه ممن كان لهم أثر في نقل فقهه إلى الأجيال اللاحقة.
أبو يوسف ( 113 - 182 ه ) : وهو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري نسبا والكوفي منشأ وتعلما ومقاما . نشأ فقيرا تضطره الحاجة للعمل ثم أمده الإمام أبو حنيفة بالمال فانصرف إلى طلب العلم . جلس إلى ابن أبي ليلى الفقيه قبل أن يجلس إلى أبي حنيفة رضي الله عنه ثم انقطع إليه مع اتصاله بالمحدثين . وكان فقيها عالما حافظا كثير الحديث عد أحفظ أصحاب الإمام أبي حنيفة للحديث . ولي القضاء لثلاثة من الخلفاء العباسيين : المهدي والهادي ثم الرشيد الذي كانت له عنده مكانة وحظوة.
وقد استفاد الفقه الحنفي من أبي يوسف فوائد جليلة إذ أن اختباره للقضاء جعله يصقل المذهب صقلا علميا بسبب اطلاعه على الشؤون العامة ومشاكل الناس فأصبح قياسه واستحسانه مشتقا من الحياة العملية لا من الفروض النظرية فقط . وقد استمد المذهب الحنفي نفوذا مكينا بتولي أبي يوسف القضاء وكونه القاضي الأول للدولة. ولعل أبا يوسف أول فقهاء الرأي الذين دعموا آراءهم بالحديث وبذلك جمع بين طريقة أهل الرأي وطريقة أهل الحديث. ولأبي يوسف كتب كثيرة دون فيها آراءه وآراء شيخه منها كتاب الآثار وكتاب أبي حنيفة وابن أبي ليلى وكتاب الرد على سير الأوزاعي وغيرها . وفي كتبه جمال في التعبير ووضوح وجزالة ودقة قياس وإحكام فكر إلى جانب بعض الأدلة الفقهية المصورة لاتجاه الإمام أبي حنيفة في تفكيره.
محمد بن الحسن الشيباني ( 132 - 189 ه ) : يكنى أبا عبد الله وينتسب إلى شيبان بالولاء . كانت سنه عند موت الإمام أبي حنيفة ثماني عشرة سنة فلم يتلق عنه أمدا طويلا ولكنه أتم دراسته لفقه العراق الذي صقله القضاء على أبي يوسف كما تلقى فقه الحجاز عن مالك رضي الله عنه وروايته للموطأ من أجود الروايات وتلقى فقد الشام عن الأوزاعي. وكانت له قدرة ومهارة في التفريع والتخريج بالإضافة إلى درايته الواسعة البالغة في الأدب وامتلاكه أعنة البيان . قال فيه الشافعي : " كان محمد بن الحسن يملأ العين والقلب وكان أفصح الناس إذا تكلم خيل إلى سامعه أن القرآن نزل بلغته " . وقد تمرس بالقضاء أيضا مما أفاده علما وتجربة وقرب فقهه من الناحية العملية التي لا تقتصر على التصور والنظر المجرد . وكان عنده اتجاه إلى التدوين فهو يعد بحق ناقل فقه العراقيين إلى الأخلاف وتعد كتبه المرجع الأول لفقه أبي حنيفة رضي الله عنه سواء في ذلك ما كان بروايته عن أبي يوسف ومراجعته عليه وما كان قد دونه من فقه أهل العراق وتلقاه عن أبي يوسف وغيره
وأهم كتبه : المبسوط والزيادات والجامع الصغير والسير الصغير والسير الكبير والجامع الكبير وتسمى الأصول وسميت كتب ظاهر الرواية لأنها رويت عن محمد برواية الثقات فهي ثابتة عنه إما متواترة أو مشهورة . ومن كتبه أيضا كتاب الآثار الذي جمع فيه الأحاديث والآثار التي رواها أبو حنيفة رضي الله عنه وهو يتلاقى في كثير من مروياته مع كتاب الآثار لأبي يوسف وكلاهما يعد مسندا لأبي حنيفة رضي الله عنه وقد جمعا بعناوين فقهية مرتبة . وهذه الكتب هي عماد النقل في الفقه الحنفي وتعد الأصل الذي يرجع إليه في فقه الإمام أبي حنيفة وأصحابه.
زفر بن هذيل ( 110 - 158 ه ) : وهو أقدم صحبة لأبي حنيفة رضي الله عنه من صاحبيه أبي يوسف ومحمد . كان ذكيا قوي الحجة أخذ عن الإمام أبي حنيفة فقه الرأي وكان أحد أصحابه قياسا . ليس له كتب بل عمل على نشر آراء أبي حنيفة رضي الله عنه بلسانه في مناظراته الفقهية مع علماء البصرة وكان قد تولى قضاءها في حياة شيخه . وقد خلف زفر أبا حنيفة رضي الله عنه في حلقته ثم خلفه من بعده أبو يوسف.
المصدر: من كتاب فقه العبادات ( حنفي ). بتصرف
| |
|